فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسئل شريح عن الكفارة فقال: الخبز والزيت والخل والطيب.
فقال السائل: أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال: ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس.
وروي عن ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنهما قالا: لكل مسكين نصف صاع من حنطة يعني: إذا أراد أن يدفع إليهم، وإن أراد أن يطعمهم، فالغداء والعشاء.
ثم قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال إبراهيم النخعي: لكل مسكين ثوب وقال الحسن: ثوبان أبيضان ثم قال: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعني: يعتق رقبة، ولم يشترط هاهنا المؤمنة، فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة، فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه {فَصِيَامُ} يعني: صيام {ثلاثة أَيَّامٍ}.
وروى سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن صيام الكفارة، قال: يفرق.
قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ: متتابعات، قال طاوس: فهو أيضًا متتابعات.
وروى مالك عن حميد، عن مجاهد قال: كان أبي يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات في الكفارة اليمين.
ثم قال: {ذلك} يعني: الذي ذكر {كَفَّارَةُ أيمانكم} عن الطعام والكسوة والعتق والصوم، ثم قال: {إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أيمانكم} يعني: ليعلم الرجل ما حلف عليه، فليكفر يمينه إذا حنث، {كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} يعني: أمره ونهيه، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تشكروا رب هذه النعمة، إذ جعل لكم مخرجًا من أيمانكم بالكفارة، والكفارة في اللغة: هو التغطية يعني: يغطي إثمه. اهـ.

.من فوائد ولطائف الفخر الرازي:

المراد بالرقبة الجملة، وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل، فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الرقبة فك الرقبة، ثم جرى ذلك على العتق، ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقبات تجزيه.
وقال الشافعي رحمه الله: الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرًا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات، ولا إعتاق المكاتب، ولا شرء القريب، وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار. اهـ.
لطيفة:
لقائل أن يقول: أي فائدة لتقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة.
قلنا له وجوه: أحدها: أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ، وثانيها: قدم الإطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم وجودًا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف، وثالثها: أن الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر، أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ...} الآية (89).
فيه سبع وأربعون مسألة:
الأُولى قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} تقدّم معنى اللغو في «البقرة» ومعنى {فِي أَيْمَانِكُمْ} أي من أيمانكم، والأيمان جمع يمين.
وقيل: ويَمين فَعِيل من اليُمن وهو البركة؛ سماها الله تعالى بذلك؛ لأنها تحفظ الحقوق.
ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أَيْمَان وأَيْمُنٌ.
قال زهير:
فتُجمَعُ أيْمنٌ مِنّا ومِنكم

الثانية واختلف في سبب نزول هذه الآية؛ فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حَلَفوا على ذلك فلما نزلت {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية.
والمعنى على هذا القول؛ إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكَفَّرتم فلا يؤاخذكم الله بذلك؛ وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تُلْغوه؛ أي فلم تُكفِّروا؛ فبان بهذا أن الحَلِف لا يحرّم شيئًا.
وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لَغْو، كما أن تحليل الحرام لَغْو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لَغْوًا في أنه لا يُحرّم؛ فقال: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} أي بتحريم الحلال.
ورُوي أن عبد الله ابن رَوَاحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك؛ فقال: لا والله لا آكله الليلة؛ فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل؛ وقال أيتامه: ونحن لا نأكل؛ فلما رأى ذلك أَكَل وأَكَلوا.
ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: «أطعتَ الرّحمن وعصيتَ الشيطان» فنزلت الآية.
الثالثة الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفّارة فيهما.
خرّج الدَّارَقُطْنيّ في سننه، حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدّثنا خلف بن هشام حدّثنا عَبْثَر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن عَلْقَمة عن عبد الله.
قال: الأيمان أربعة، يمينان يُكفَّران ويمينان لا يُكفَّران؛ فاليمينان اللذان يُكفَّران فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يُكفَّران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله.
قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوريّ في «جامعه»، وذكره المَرْوَزِيّ عنه أيضًا، قال سفيان: الأيمان أربعة؛ يمينان يكفَّران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لأفعلنّ ثم لا يفعل، ويمينان لا يُكفَّران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل؛ قال المَرْوَزِيّ: أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان؛ وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما؛ فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقًا يَرَى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفّارة عليه في قول مالك وسفيان الثوريّ وأصحاب الرأي، وكذلك قال أحمد وأبو عبيد؛ وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفّارة.
قال المَرْوَزِيّ: وليس قول الشافعي في هذا بالقويّ.
قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا وقد فعل متعمدًا للكذب فهو آثم ولا كفّارة عليه في قول عامة العلماء؛ مالك وسفيان الثوريّ وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد.
وكان الشافعي يقول يُكَفِّر؛ قال: وقد رُوي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي.
قال المَرْوَزِيّ: أميل إلى قول مالك وأحمد.
قال: فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لَغْو فهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير منعقدٍ لليمين ولا مُريدها.
قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
الرابعة قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حِسِّيّ كعَقْد الحبل، وحُكْميّ كعَقْد البيع؛ قال الشاعر:
قوم إذا عَقَدوا عَقْدًا لجارِهم ** شَدُّوا العِنَاجَ وشَدُّوا فوقه الكَرَبَا

فاليمين المنعقدة منفعِلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألاّ يفعلَ ففعل؛ أو ليفعلنّ فلا يفعل كما تقدّم.
فهذه التي يُحلّها الاستثناء والكفّارة على ما يأتي.
وقرئ {عَاقَدْتُمْ} بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر، وقد يكون الثاني من حُلِف لأجله في كلام وَقَع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان؛ لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدى بحرف الجر، لما كان في معنى عاهد، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله} [الفتح: 10] وهذا كما عديت {نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيدًا {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] لكن لما كانت بمعنى دعوت عديّ بإلى؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت: 33] ثم اتسع في قوله تعالى: {عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] فحذف حرف الجر؛ فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه، ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
أو يكون فَاعلَ بمعنى فَعلَ كما قال تعالى: {قَاتَلَهُمُ الله} [التوبة: 30] أي قَتَلهم.
وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى «فاعلت» كقولهم: سافرت وظاهرت.
وقرئ {عَقَّدْتُمْ} بتشديد القاف.
قال مجاهد: معناه تعمّدتم أي قصدتم.
ورُوي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفّارة إلا إذا كرر.
وهذا يَردُّه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فَأَرَى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خير وكَفَّرتُ عن يميني» فذكر وجوب الكفّارة في اليمين التي لم تتكرر.
قال أبو عبيد: التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفّارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارًا.
وهذا قول خلاف الإجماع.
روى نافع أن ابن عمر كان إذا حنِثَ من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة.
قيل: لنافع ما معنى وكد اليمين؟ قال: أن يحلف على الشيء مرارًا.
الخامسة اختلف في اليمين الغَمُوس هل هي يمين منعقدة أم لا؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكرٍ وخَدِيعةٍ وكذبٍ فلا تنعقد ولا كفّارة فيها.
وقال الشافعي: هي يمين منعقدة؛ لأنها مكتسَبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفّارة.
والصحيح الأوّل.
قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأُوزاعيّ ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوريّ وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة؛ قال أبو بكر: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه» وقوله: «فليكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير» يدل على أن الكفّارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.
وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفّر وإن أَثِم وعَمَد الحلِف بالله كاذبًا؛ هذا قول الشافعي.
قال أبو بكر: ولا نعلم خبرًا يدل على هذا القول، والكتاب والسنة دالان على القول الأوّل؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس} [البقرة: 224] قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألاَّ يَصِلَ قرابته فجعل الله له مخرجًا في التكفير، وأمره ألا يعتلَّ بالله وليكفّر عن يمينه.
والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلِف بها الرجل يقتطع بها مالًا حرامًا هي أعظم من أن يكفِّرها ما يكفر اليمين.